المغني المنفرد
قصة من الأدب الروسي
للكاتب : سيرجي نكــتيـن
ترجمة : علي عويض الأزوري
غادرنا قاعة الإحتفال في صمت بعد أن استمعنا لمغن جيد، كنا نخشى أن نفسد على أنفسنا الشعور الذي خلّفته فينا الموسيقى والذي كان مزيجا من المتعة والحزن والإلهام. شعور لا توّلده إلا الموسيقى.
كان مساءا هادئا وباردا. بساط من الصقيع تلألأ كالإبر على الرصيف،وأسقف المنازل والحواجز وأعمدة الكهرباء .
تعلقت مصابيح الإضاءة في الظلام مثل فقاقيع بنفسجية كبيرة. وانساب ضوء بني ممزوج بحمرة عبر نوافذ حافلات النقل.
تنهد أحدنا، تبعه الآخر وبعدها تنهدنا جميعا في انسجام.
قالت إحدى النساء “ لو كان لي مثل ذلك الصوت.”، كانت تحب الغناء لنفسها بصوت ضعيف لا يكاد يسمع وذلك عندما تخيط أو تطبخ أوبرفقة مجموعة من الأصدقاء في غناء إرتجالي. “ لو كان لي صوت جميل لأسعدت الناس بالغناء كلما سنحت لي الفرصة. سوف أغني طواعية، لا أريد أن يطلب مني إعادة ولا أريد تصفيقا ، حتىلفترة قصيرة . سوف أُغني في كل مكان ، على خشبة المسرح ، في الأماكن العامة، في المطعم والشرفات".
“ نعم ، أليس جميلا عندما تغني للناس ويجد صوتك صدى في قلوبهم.”
ذلك ما قاله مرافق السيدة ، رجل ضئيل الجسم وخجول ، يضع على رأسه قبعة فراء رثة وكبيرة ، تبدو كأنها تخفضه للأسفل ، لحظتها أحس بعدم التوافق بين مظهره وبين جلال كلماته ، أضاف في خجل :
“ أوه ، ها أنا أعود لذلك مرة أخرى “
أطبق الصمت علينا مرة أخرى، كنا تائهين مع التفكير ، مصغين إلى سحق الجليد تحت أقدامنا ، إلى أن بدّد صمتنا الرجل الضئيل ذي القبـــعة قائلا بعد تفكير للمرأة التي ترافقه -:
“ ربما ليس كافيا أن تتمتع بصوت جميل. لقد شاهدت دموعكِ هذا المساء وهو ما استحق عليه المغني التصفيق، لكن لا أمانع المراهنة أن ذلك المغني المشهور لم يحصل على نجاح منقطع النظير كالذي حصلت عليه من قبل"
ووقفنا ونحن جامدين على الرصيف.
“ أنت لم تكن !”
“ هل كنت حقيقة؟ “
“ متى؟”
“ أنت؟”
أجاب الرجل صاحب القبعة “ الأمر غريب كما يبدو، نعم ، أنا،”.
“ هل رأيتم أناسا تتساقط دموعهم الليلة ؟ كنتِ هناك وثلاث أو أربع سيدات شابات ذوات حساسية. لكني في إحدى المرات جعلت جميع المشاهدين يبكون. كان هناك أكثر من ثلاثمئة سيدة ، لم يذرفن دمعة ، بل كن ينشجن”
قال أحدنا “ لا بد أنه كان مأتما “
“ لا، لم يكن كذلك. كانت حفلة للهواة في النادي الإجتماعي للمصنع. كنت وقتها في التاسعة وأعيش مع والدتي في مستوطنة الحائكين. تلك المستوطنة الصغيرة والبعيدة التي يوجد بها طاحونة ومحطة تستقبل قطارا واحدا يوميا. حسنا ، لكم أن تتخيلوها .حدث ذلك أثناء الحرب. كانت المستوطنة مظلمة وباردة ونحن نتضور جوعا. كانت النساء الحائكات يعملن من إثني عشرة الى ثمانية عشر ساعة يوميا . لازلت أذكر عواء الريح في المستوطنة. كان حزينا. نمت أشجار صنوبر نحيلة وطويلة، وتلاعبت الرياح بالأشجار ، تنقرها مثل الأوتار مصدرة أصواتا كئيبة. كان النادي ضيقا وغير مريح. بالطبع لا توجد تدفئة ، أقامت مدرستنا حفلة غنائية هناك. وامتلأت القاعة بعاملات الطاحونة، جالسين على معاطفهن و أغطية رؤوسهن. لم يكن بينهن رجل. كان التنفس صعبا لإكتظاظ القاعة بالحضور حيث طغت رائحة رطوبة لزجة ممزوجة برائحة القطن الصادر من المصنع لكن ذلك لم يثنِ الأطفال الكبار عن تأديةمسرحية قصيرة عن" الموالين "رقصوا بعدها وهم يغنون عن منديل أزرق.
“ إعتليت بعدهم خشبة المسرح. كيف كنت أبدو حينها ؟. طفل مريض بأنف محدّد وبشرة زرقاء. يبرز عنقي النحيف من الياقة الواسعة ، وتغوص قدماي في مايشبه القمع الهائل مع الإحساس بلبس جزمة. كان من المفترض أن أغني شيئا من أغاني الرواد. لا أستطيع تذكر الكلمات الآن ، نسيتها بمجرد النظر إلى الجمهور حينذاك. نقرت المدرسة المقدمة على بيانو النادي المتجمد، لكنني لم أستطع أن أغني كلمة واحدة. عزفت المدرسة المقدمة مرة أخــرى ، لم أحرك ساكنا. حاولت المدرسة ان تحثني وهي تصفر مثل إوزة ، لكنني لم أستوعب أي شيء . شعرت بالخزي والعار ، لا أعرف كيف حدث ذلك ، لكنني بدأت بغناء أول شيء خطر على بالي . “ منسيٌ، ملقى جانبا ، يتيم من أولى سنيِّ عمــري ، لا أعرف السعادة .... “
هربت المدرسة.
“ صمت مميت أحاط بالصالة ، إلا غنائي وصوتي الضعيف مرددا ’ سوف أموت ، سوف أموت ... “ سمعت نشيج النســــاء ، وعندما وصلت إلى المقطع الذي يصف القبر الصغير الذي لن يزوره أحد ، بكين النسوة بصوت مسموع. لم يكن هناك تصفيق ولا طلبات إعادة. هل تعلمون ماذا عرضوا علي :لا تقلق يافتى ’ سوف نعتني بك . سوف نطعمـــك ، لن نتخلى عنك” وتواصل العطاء.كنا أمي وأنا من الـمُجلَيْن ، ولم نكن معروفين في المستوطنة. ظنت تلك السيدة أنني يتيم فعلا. هناك طريقة تستطيع إسماع صوتك بها ، لكنه ليس مجرد الصوت ، كان أسى استحوذ على كل قلب.
صمت لبرهة، ثم صرخ بينما كنا نمشي في صمت ، ربما ليجذب انتباهنا لما تهدف إليه قصته :
“ يالهن من نساء هؤلاء الحائكات ، كن يصرخن " لن نتركك ، سوف نطعمك ، يالهن من فتيات رائعات ، ؟"
…………………….
قصة من الأدب الروسي
للكاتب : سيرجي نكــتيـن
ترجمة : علي عويض الأزوري
غادرنا قاعة الإحتفال في صمت بعد أن استمعنا لمغن جيد، كنا نخشى أن نفسد على أنفسنا الشعور الذي خلّفته فينا الموسيقى والذي كان مزيجا من المتعة والحزن والإلهام. شعور لا توّلده إلا الموسيقى.
كان مساءا هادئا وباردا. بساط من الصقيع تلألأ كالإبر على الرصيف،وأسقف المنازل والحواجز وأعمدة الكهرباء .
تعلقت مصابيح الإضاءة في الظلام مثل فقاقيع بنفسجية كبيرة. وانساب ضوء بني ممزوج بحمرة عبر نوافذ حافلات النقل.
تنهد أحدنا، تبعه الآخر وبعدها تنهدنا جميعا في انسجام.
قالت إحدى النساء “ لو كان لي مثل ذلك الصوت.”، كانت تحب الغناء لنفسها بصوت ضعيف لا يكاد يسمع وذلك عندما تخيط أو تطبخ أوبرفقة مجموعة من الأصدقاء في غناء إرتجالي. “ لو كان لي صوت جميل لأسعدت الناس بالغناء كلما سنحت لي الفرصة. سوف أغني طواعية، لا أريد أن يطلب مني إعادة ولا أريد تصفيقا ، حتىلفترة قصيرة . سوف أُغني في كل مكان ، على خشبة المسرح ، في الأماكن العامة، في المطعم والشرفات".
“ نعم ، أليس جميلا عندما تغني للناس ويجد صوتك صدى في قلوبهم.”
ذلك ما قاله مرافق السيدة ، رجل ضئيل الجسم وخجول ، يضع على رأسه قبعة فراء رثة وكبيرة ، تبدو كأنها تخفضه للأسفل ، لحظتها أحس بعدم التوافق بين مظهره وبين جلال كلماته ، أضاف في خجل :
“ أوه ، ها أنا أعود لذلك مرة أخرى “
أطبق الصمت علينا مرة أخرى، كنا تائهين مع التفكير ، مصغين إلى سحق الجليد تحت أقدامنا ، إلى أن بدّد صمتنا الرجل الضئيل ذي القبـــعة قائلا بعد تفكير للمرأة التي ترافقه -:
“ ربما ليس كافيا أن تتمتع بصوت جميل. لقد شاهدت دموعكِ هذا المساء وهو ما استحق عليه المغني التصفيق، لكن لا أمانع المراهنة أن ذلك المغني المشهور لم يحصل على نجاح منقطع النظير كالذي حصلت عليه من قبل"
ووقفنا ونحن جامدين على الرصيف.
“ أنت لم تكن !”
“ هل كنت حقيقة؟ “
“ متى؟”
“ أنت؟”
أجاب الرجل صاحب القبعة “ الأمر غريب كما يبدو، نعم ، أنا،”.
“ هل رأيتم أناسا تتساقط دموعهم الليلة ؟ كنتِ هناك وثلاث أو أربع سيدات شابات ذوات حساسية. لكني في إحدى المرات جعلت جميع المشاهدين يبكون. كان هناك أكثر من ثلاثمئة سيدة ، لم يذرفن دمعة ، بل كن ينشجن”
قال أحدنا “ لا بد أنه كان مأتما “
“ لا، لم يكن كذلك. كانت حفلة للهواة في النادي الإجتماعي للمصنع. كنت وقتها في التاسعة وأعيش مع والدتي في مستوطنة الحائكين. تلك المستوطنة الصغيرة والبعيدة التي يوجد بها طاحونة ومحطة تستقبل قطارا واحدا يوميا. حسنا ، لكم أن تتخيلوها .حدث ذلك أثناء الحرب. كانت المستوطنة مظلمة وباردة ونحن نتضور جوعا. كانت النساء الحائكات يعملن من إثني عشرة الى ثمانية عشر ساعة يوميا . لازلت أذكر عواء الريح في المستوطنة. كان حزينا. نمت أشجار صنوبر نحيلة وطويلة، وتلاعبت الرياح بالأشجار ، تنقرها مثل الأوتار مصدرة أصواتا كئيبة. كان النادي ضيقا وغير مريح. بالطبع لا توجد تدفئة ، أقامت مدرستنا حفلة غنائية هناك. وامتلأت القاعة بعاملات الطاحونة، جالسين على معاطفهن و أغطية رؤوسهن. لم يكن بينهن رجل. كان التنفس صعبا لإكتظاظ القاعة بالحضور حيث طغت رائحة رطوبة لزجة ممزوجة برائحة القطن الصادر من المصنع لكن ذلك لم يثنِ الأطفال الكبار عن تأديةمسرحية قصيرة عن" الموالين "رقصوا بعدها وهم يغنون عن منديل أزرق.
“ إعتليت بعدهم خشبة المسرح. كيف كنت أبدو حينها ؟. طفل مريض بأنف محدّد وبشرة زرقاء. يبرز عنقي النحيف من الياقة الواسعة ، وتغوص قدماي في مايشبه القمع الهائل مع الإحساس بلبس جزمة. كان من المفترض أن أغني شيئا من أغاني الرواد. لا أستطيع تذكر الكلمات الآن ، نسيتها بمجرد النظر إلى الجمهور حينذاك. نقرت المدرسة المقدمة على بيانو النادي المتجمد، لكنني لم أستطع أن أغني كلمة واحدة. عزفت المدرسة المقدمة مرة أخــرى ، لم أحرك ساكنا. حاولت المدرسة ان تحثني وهي تصفر مثل إوزة ، لكنني لم أستوعب أي شيء . شعرت بالخزي والعار ، لا أعرف كيف حدث ذلك ، لكنني بدأت بغناء أول شيء خطر على بالي . “ منسيٌ، ملقى جانبا ، يتيم من أولى سنيِّ عمــري ، لا أعرف السعادة .... “
هربت المدرسة.
“ صمت مميت أحاط بالصالة ، إلا غنائي وصوتي الضعيف مرددا ’ سوف أموت ، سوف أموت ... “ سمعت نشيج النســــاء ، وعندما وصلت إلى المقطع الذي يصف القبر الصغير الذي لن يزوره أحد ، بكين النسوة بصوت مسموع. لم يكن هناك تصفيق ولا طلبات إعادة. هل تعلمون ماذا عرضوا علي :لا تقلق يافتى ’ سوف نعتني بك . سوف نطعمـــك ، لن نتخلى عنك” وتواصل العطاء.كنا أمي وأنا من الـمُجلَيْن ، ولم نكن معروفين في المستوطنة. ظنت تلك السيدة أنني يتيم فعلا. هناك طريقة تستطيع إسماع صوتك بها ، لكنه ليس مجرد الصوت ، كان أسى استحوذ على كل قلب.
صمت لبرهة، ثم صرخ بينما كنا نمشي في صمت ، ربما ليجذب انتباهنا لما تهدف إليه قصته :
“ يالهن من نساء هؤلاء الحائكات ، كن يصرخن " لن نتركك ، سوف نطعمك ، يالهن من فتيات رائعات ، ؟"
…………………….
31/12/14, 05:41 am من طرف ياراا
» كورس تصميم مواقع من مركز طيبة التعليمى
03/06/12, 08:44 pm من طرف طيبة
» مقاولات المومنيوم
10/04/12, 03:46 pm من طرف ابن الهديه
» لعبة air guard للتحميل
15/03/12, 12:39 am من طرف محمد ضاحى
» أفضل الصوالين في الغربية
12/03/12, 08:47 pm من طرف أم الجورية
» زبيدي من الردود
25/01/12, 02:54 am من طرف داود الزبيدي
» من جد مهجور ويخوف
20/01/12, 08:51 pm من طرف لمسة حب
» تبي تحس بقيمة اللي تحبة؟؟تبي تحس بقيمة اللي تحبة؟؟
20/01/12, 08:32 pm من طرف لمسة حب
» ياناس مدري هل انا حي أو مَيْت
20/01/12, 08:25 pm من طرف لمسة حب